فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)}.
قوله: {مَّقَامًا}: قرأ ابن كثير {مُقامًا} بالضم، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءةُ ابن محيصن. والباقون بالفتح. وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر، إمَّا من (قام) ثلاثيًا، أو مِنْ (أقام)، أي: خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ. والنَّدِيُّ: فَعِيل، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا، يقال: نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم، أي: أَتَيْتُ ناديَهم، والنادي مثلُه. ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17]، أي: أهل نادية. والنَّدِيُّ والنادي: مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم. وقيل: هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛ لأن الكرماء يجتمعون فيه، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك. وقال حاتم:
ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم ** يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ

والمصدرُ: النَّدْوُ. و{مَقامًا} و{نَدِيَّا} منصوبان على التمييز من أفْعل. وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن {يُتْلَى} بالياء مِنْ تحتُ، والباقون/ بالتاءِ من فوقُ واللامُ في {للذين} يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ، وهو الظاهر، وأن تكونَ للتعليلِ.
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا}: {كم} مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا: استفهاميةٌ أو خبريةٌ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ، و{أَهلَكْنا} مُتَسَلِّطٌ على {كم} أي: كثيرًا من القرون أَهْلَكْنا. و{مِنْ قَرنٍ} تمييزٌ ل {كَمْ} مُبَيِّنٌ لها.
قوله: {هُمْ أَحْسَنُ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما:- وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء- أنَّها في محلِّ نصب، صفةً ل {كم}. قال الزمخشري: ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ (هم) لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ {أحسنُ} على الوصفية. وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا: على أنَّ {كم} استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها. الثاني: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل {قَرْن} ولا محذورَ في هذا، وإنما جُمِعَ في قوله: {هم} لأنَّ قَرْنًا وإن كان لفظُه مفردًا فمعناه جمعٌ، ف {قَرْن} كلفظِ (جميع) و(جميع) يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى: {لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32].
قوله: {ورِئْيًا} الجمهورُ على {رِئْيًا} الجمهورُ على {رِئْيا} بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلًا ووفقًا، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتبارًا بالأصل، والإِدغامُ اعتبارًا باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه. وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر: {ورِيَّا} بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظرًا لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما.
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى {وَرِيْئًا} بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ {رِئْيًا} في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر:
وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ ** مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ

وفي القلب من القلبِ ما فيه.
ورَوَى اليزيديُّ قراءة: {ورِياء} بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ.
وقرأ ابنُ عباس أيضًا في رواية طلحة {وَرِيًَا} بياء فقط مخففةٍ. ولها وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير. والثاني: أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد {وَرِيْئا} بالقلب، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل، فصار (وَرِيا) كما ترى. وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْنًا، وليس اللاحنُ غيرَه، لخَفَاءِ توجيهِها عليه. وقرأ ابن عباس أيضًا وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ {وزِيَّا} بزايٍ وياءٍ مشددة، والزَّيُّ: البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه، أي: يَجْمعه، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه.
قوله: {مَن كَانَ فِي الضلالة} {مَنْ} يجوز أن تكونَ شرطيةً، وهو الظاهر، وأن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط. وقوله: {فَلْيَمْدُدْ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه طَلَبٌ على بابه، ومعناه الدُّعاءُ. والثاني: لفظُه لفظُ الأمرِ، ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مَدَّ له الرحمنُ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذانًا بوجوبِ ذلك. أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه.
قوله: {حتى إذا} في {حتى} هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها: حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين. فقال الزمخشري: وفي هذه الآيةِ وجهان: أن تكونَ موصولةً، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها، والآيتان اعتراضٌ بينهما، أي: قالوا: أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقامًا وأَحْسَنُ نَدِيًَّا، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون، أي: لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون به لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ. وذكر كلامًا حسنًا.
ثم قال: والثاني: أن تتصلَ بما يليها، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم. وذكر كلامًا طويلًا. ثم قال: إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ اللهِ للمؤمنين، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها. فإنْ قلت: {حتى} هذه ما هي؟ قلت: هي التي تُحْكى بعدها الجملُ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها، وهي {إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} {فَسَيَعْلَمُونَ}.
قال الشيخ:- مُسْتبعدًا للوجه الأول- وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قوله: {قالوا} أيُّ الفريقينِ وبين الغايةِ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي. وهذا الاستبعادُ قريبٌ. وقال أبو البقاء: {حتى} يُحْكَى ما بعدها ههنا، وليست متعلقةً بفعلٍ.
قوله: {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} قد عَرَفْتَ ما في {إمَّا}: من كونِها حرفَ عطفٍ أولا، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و{العذابَ} و{الساعةَ} بدلانِ مِنْ قوله: {مَا يُوعَدُونَ} المنصوبةِ ب {رَأَوْا} و{فَسَيَعْلمون} جوابُ الشرط.
و{مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} يجوز أَنْ تكونَ {مَنْ} موصولةً بمعنى الذي، وتكونَ مفعولًا ل {يَعْلَمون}. ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و{هو} مبتدأُ ثانٍ، و{شَرٌّ} خبرُه، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق.
قوله: {وَيَزِيدُ الله}:
في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها، فإنها سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقال الزمخشري: إنها معطوفةٌ على موضعِ {فَلْيَمْدُدْ} لأنه واقعٌ موقعَ الخبر، تقديرُه: (مَنْ كان في الضلالة مَدَّ- أو يَمُدُّ- له الرحمنُ ويَزيدُ). قال الشيخ: ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ {ويَزيدُ} معطوفًا على {فَلْيَمْدُدْ} سواءً كان دعاءً أم خبرًا بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت {مَنْ} موصولةً، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت {مَنْ} شرطيةً، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قوله: {ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هدىً} عاريةٌ من ضميرٍ يعود على {مَنْ} يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو {فَلْيَمْدُدْ} وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ. وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسمًا لا ظرفًا تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها.
قلت: وقد ذكر أبو البقاء أيضًا كما ذكر الزمخشري. وقد يُجاب عمَّا قالاه: بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ {مَنْ} شرطيةً. قوله: (لابُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف) ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافًا قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة. فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)}.
يعني إذا قُرِئَتْ عليهم آياتُ القرآن قابلوها بالردِّ والجحد والعتو والزيغ، ويَدَّعُون أنهم على حقٍ، ولا يعتمدون في ذلك إلا على الحَدْسِ والظَّنِّ.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}.
أي إن هؤلاء ينخرطون في سِلْكِ مَنْ تَقَدَّمهم، كما سلكوا في الريب منهاجهم، وسَيَلْقَوْن ما يستوجبونه على سوء أعمالهم.
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا}.
إن الله تعالى يُمْهِلُ الكفارَ ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويَغْترُّوا بسلامةِ أحوالهم، فينسونه في غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم.
قوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} أي يحل بهم موعودُ العقوبة عاجلًا أو قيام الساعة آجلًا، فعند ذلك يتضح لهم ما تعامَوْا عنه من شدة الانتقام، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم.
قوله جلّ ذكره: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}.
أي يُغْنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإذا مَتَعَ نهارُ العرفانِِ فلا ظلمة ولا تهمة.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدّا}.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: الشهادةُ بالربوبيةِ خيرٌ من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص.
ويقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: التي تبقى عند الله مقبولة.
قوله تعالى: {خَيْرٌ} لأن في استحقاقِ القبول زيادةً للهدى؛ فيصير عِلْمُ اليقين عينَ اليقين، وعينُ يقينهم حَقَّ اليقين. اهـ.

.تفسير الآيات (77- 84):

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تضمن هذا من التهديد بذلك اليوم ما يقطع القلوب، فيوجب الإقبال على ما ينجي منه، عجب من حال من كفر به، موبخًا له، منكرًا عليه، عاطفًا على ما أرشد إليه السياق فقال معبرًا عن طلب الخير بالرؤية التي هي الطريق إلى الإحاطة بالأشياء علمًا وخبرة، وإلى صحة الخبر عنها: {أفرءيت} أي أرأيت الذي يعرض عن هذا اليوم فرأيت {الذي} زاد على ذلك بأن {كفر بآياتنا} الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات {وقال} جراءة منه وجهلًا؛ أو يقال: إنه لما هول أمر ذلك اليوم.
وهتك أستار مقالاتهم، وبين وهيها، تسبب عن ذلك التعجيبُ ممن يقول: {لأوتين} أي والله في الساعة على تقدير قيامها ممن له الإيتاء هنالك {مالًا وولدًا} أي عظيمين، فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز.
ولما كان ما ادعاه لا علم له به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما، أنكر عليه قوله ذلك بقوله: {أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق، فهو في بعده عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحدًا منهم الاطلاع عليه، وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي بغاية جهده {عند الرحمن} العام الرحمة بالإنعام على الطائع والانتقام من العاصي ثوابًا للطائع {عهدًا} عاهده عليه بأنه يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها له على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله.
ولما كان كل من الأمرين: إطلاع الغيب واتخاذ العهد، وكذا ما ادعاه لنفسه، وما يلزم عن اتخاذ العهد من القرب، منتفيًا قال: {كلًا} أي لم يقع شيء من هذين الأمرين، ولا يكون ما ادعاه فليرتفع عنه صاغرًا.
ولما كان النفي هنا عن الواحد مفهمًا للنفي عما فوقه اكتفى به، ولما رد ذلك استأنف الجواب لسؤال من كأنه قال: فماذا يكون له؟ بقوله مثبتًا السين للتوكيد في هذا التهديد: {سنكتب ما يقول} أي نحفظه عليه حفظ من يكتبه لنوبخه به ونعذبه عليه بعد الموت فيظهر له بعد طول الزمان أن ما كان فيه ضلال يؤدي إلى الهلاك لا محالة، ويجوز أن تكون السين على بابها من المهلة، وكذا الكتابة، والإعلام بذلك للحث على التوبة قبل الكتابة، وذلك من عموم الرحمة {ونمد له من العذاب مدًا} باستدراجه بأسبابه من كثرة النعم من الأموال والأولاد المحببة له في الدنيا، المعذبة له فيها، بالكدح في جمعها والمخاصمة عليها الموجبة له التمادي في الكفر الموجب لعذاب الآخرة، وإتيان بعضه في إثر بعض {إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 85] {ونرثه} بموته عن جميع ذلك؛ ثم أبدل من ضميره قوله: {ما يقول} أي من المال والولد فنحول بينه وبينهم بعد البعث كما فعلنا بالموت كحيلولة الوارث بين الموروث وبين الموروث عنه {ويأتينا} في القيامة {فردًا} مسكينًا منعزلًا عن كل شيء لا قدرة له على مال ولا ولد، قلا عز له، ولا قوة بشيء منهما؛ روى البخاري في التفسير عن خباب- رضي الله عنهم- قال: كنت قينًا بمكة فعملت للعاص بن وائل السهمي سيفًا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قلت: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يحييك، وفي رواية: حتى تموت ثم تبعث، قال: وإني لمبعوث من بعد الموت؟ قلت: نعم! قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالًا وولدًا فأقضيك، فنزلت هذه الآية {أفرأيت الذي}- إلى قوله: {فردًا}.
ولما أخبر تعالى بالبعث، وذكر أن هذا الكافر يأتيه على صفة الذل، أتبعه حال المشركين مع معبوداتهم، فقال معجبًا منهم عاطفًا على قوله ويقول الإنسان: {واتخذوا} أي الكفار، وجمع لأن نفي العز عن الواحد قد لا يقتضي نفيه عما زاد {من دون الله} وقد تبين لهم أنه الملك الأعلى الذي لا كفوء له {ءالهة ليكونوا لهم} أي الكافرين {عزًا} لينقذوهم من العذاب.
ولما بين أنه لا يعزه مال ولا ولد، وكان نفع الأوثان دون ذلك بلا شك، نفاه بقوله: {كلًا} بأداة الردع، لأن ذلك طلب للعز من معدن الذل من العبيد الذين من اعتز لهم ذل، فإنهم مجبولون على الحاجة، ومن طلب العز للدنيا طلبه من العبيد لا محالة، فاضطر قطعًا- لبنائهم على النقص- إلى ترك الحق واتباع الباطل، فكانت عاقبة أمره الذل وإن طال المدى، فإن الله تعالى ربما أمهل المخذول إلى أن ينتهي في خذلانه إلى أن يستحق لباس الذل؛ ثم بين سبحانه ذلك بما يكون منهم يوم البعث فقال: {سيكفرون} أي الآلهة بوعد لا خلف فيه وإن طال الزمان {بعبادتهم} أي المشركين، فيقولون لهم {ما كنتم إيانًا تعبدون} [يونس: 28] {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} [البقرة: 166] {ويكونون عليهم} أي الكفار؛ ووحد إشارة إلى اتفاق الكلمة بحيث إنهم لفرط تضامنهم كشيء واحد فقال: {ضدًا} أي أعداء فيكسبونهم الذل، وكذا يفعل الكفار مع شركائهم ويقولون {والله ربنا ما كنا مشركين} فيقع بينهم العداوة كما قال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا} [العنكبوت: 25].
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلًا عن كفرهم بهم، دل على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم، فقال: {ألم تر أنا} بما لنا من العظمة {أرسلنا الشياطين} الذين خلقناهم من النار، إرسالًا مستعليًا بالإبعاد والإحراق {على الكافرين} أي العريقين في الكفر {تؤزهم أزًا} أي تحركهم تحريكًا شديدًا، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم أشد الناس عيبًا لفاعليها وذمًا لمرتكبيها إرعاجًا عظيمًا بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء منافاة لطبع الطين وملاءمة لطبع النار، فلما ثبت بذلك المدعى، تسبب عنه النهي عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال: {فلا تعجل عليهم} بشيء مما تريد به الراحة منهم.
ولما كانت مراقبة ناصر الإنسان لعدوه في الحركات والسكنات أكبر شاف للولي ومفرح، وأعظم غائط للعدو ومزعج ومخيف ومقلق، علل ذلك بقوله دالًا على أن زمنهم قصير جدًا بذكر العد: {إنما نعد لهم} بإمهالنا لهم وإدرارنا النعم عليهم {عدًا} لأنفاسهم فما فوقها لا نغفل عنهم بوجه، فإذا جاء أجلهم الذي ضربناه لهم، محونا آثارهم، وأخلينا منهم ديارهم، لا يمكنهم أن يفوتونا، فاصبر فما أردنا بإملائنا لهم إلا إشقاءهم وإرداءهم لا تنعيمهم وإعلاءهم، فهو من قصر الموصوف على صفته إفرادًا. اهـ.